فصل: فَصْلٌ: قَوْلُهُ: وَتُفِيدُ مُطَالَعَةُ الْبِدَايَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: قَوْلُهُ: وَتُفِيدُ مُطَالَعَةُ الْبِدَايَاتِ:

يَحْتَمِلُ كَلَامُهُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُلَاحَظَةَ عَيْنِ الْجَمْعِ: تُفِيدُ صَاحِبَهَا مُطَالَعَةَ السَّوَابِقِ الَّتِي ابْتَدَأَهُ اللَّهُ بِهَا. فَتُفِيدُهُ مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ نَظْرَةً إِلَى أَوَّلِيَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْبِدَايَاتِ: بِدَايَاتِ سُلُوكِهِ، وَحِدَّةَ طَلَبِهِ. فَإِنَّهُ فِي حَالِ سُلُوكِهِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، لِشِدَّةِ شُغْلِهِ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَغَلَبَةِ أَحْكَامِ الْهِمَّةِ عَلَيْهِ. فَلَا يَتَفَرَّغُ لِمُطَالَعَةِ بِدَايَاتِهِ. فَإِذَا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ: قَطَعَ السُّلُوكَ الْأَوَّلَ. وَبَقِيَ لَهُ سُلُوكٌ ثَانٍ. فَتَفَرَّغَ حِينَئِذٍ إِلَى مُطَالَعَةِ بِدَايَاتِهِ. وَوَجَدَ اشْتِيَاقًا مِنْهُ إِلَيْهَا، كَمَاقَالَ الْجُنَيْدُ: وَاشَوْقَاهُ إِلَى أَوْقَاتِ الْبِدَايَةِ.
يَعْنِي: لَذَّةَ أَوْقَاتِ الْبِدَايَةِ، وَجَمْعِ الْهِمَّةِ عَلَى الطَّلَبِ، وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ كَانَ مَجْمُوعَ الْهِمَّةِ عَلَى السَّيْرِ وَالطَّلَبِ. فَلَمَّا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ فَنِيَتْ رُسُومُهُ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ الْفَنَاءُ عَنْ بَشَرِيَّتِهِ، وَأَحْكَامِ طَبِيعَتِهِ. فَتَقَاضَتْ طِبَاعُهُ مَا فِيهَا. فَلَزِمَتْهُ الْكُلَفُ. فَارْتَاحَ إِلَى أَوْقَاتِ الْبِدَايَاتِ، لِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ لَذَّةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْخَلْقِ، وَاجْتِمَاعِ الْهِمَّةِ.
وَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. فَقَالَ: هَكَذَا كُنَّا حَتَّى قَسَتْ قُلُوبُنَا.
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةً. وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ.
فَالطَّالِبُ الْجَادُّ: لَا بُدَّ أَنْ تَعْرِضَ لَهُ فَتْرَةٌ. فَيَشْتَاقُ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ إِلَى حَالِهِ وَقْتَ الطَّلَبِ وَالِاجْتِهَادِ.
وَلَمَّا فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَغْدُو إِلَى شَوَاهِقِ الْجِبَالِ لِيُلْقِيَ نَفْسَهُ. فَيَبْدُوَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَقُولَ لَهُ: إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَطْمَئِنُّ نَفْسُهُ.
فَتَخَلُّلُ الْفَتَرَاتِ لِلسَّالِكِينَ: أَمْرٌ لَازِمٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى مُقَارَبَةٍ وَتَسْدِيدٍ، وَلَمْ تُخْرِجْهُ مِنْ فَرْضٍ، وَلَمْ تُدْخِلْهُ فِي مُحَرَّمٍ: رَجَا لَهُ أَنْ يَعُودَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: إِنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا. فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَخُذُوهَا بِالنَّوَافِلِ. وَإِنْ أَدْبَرَتْ فَأَلْزِمُوهَا الْفَرَائِضَ.
وَفِي هَذِهِ الْفَتَرَاتِ وَالْغُيُومِ وَالْحُجُبِ، الَّتِي تَعْرِضُ لِلسَّالِكِينَ: مِنَ الْحِكَمِ مَا لَا يَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. وَبِهَا يَتَبَيَّنُ الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ.
فَالْكَاذِبُ: يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَيَعُودُ إِلَى رُسُومِ طَبِيعَتِهِ وَهَوَاهُ.
وَالصَّادِقُ: يَنْتَظِرُ الْفَرَجَ. وَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ. وَيُلْقِي نَفْسَهُ بِالْبَابِ طَرِيحًا ذَلِيلًا مِسْكِينًا مُسْتَكِينًا، كَالْإِنَاءِ الْفَارِغِ الَّذِي لَا شَيْءَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، يَنْتَظِرُ أَنْ يَضَعَ فِيهِ مَالِكُ الْإِنَاءِ وَصَانِعُهُ مَا يَصْلُحُ لَهُ، لَا بِسَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ- وَإِنْ كَانَ هَذَا الِافْتِقَارُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ- لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِنْكَ. بَلْ هُوَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْكَ بِهِ. وَجَرَّدَكَ مِنْكَ. وَأَخْلَاكَ عَنْكَ. وَهُوَ الَّذِي {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}.
فَإِذَا رَأَيْتَهُ قَدْ أَقَامَكَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَرْحَمَكَ وَيَمْلَأَ إِنَاءَكَ، فَإِنْ وَضَعْتَ الْقَلْبَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلْبٌ مُضَيِّعٌ. فَسَلْ رَبَّهُ وَمَنْ هُوَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ: أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْكَ وَيَجْمَعَ شَمْلَكَ بِهِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
إِذَا مَا وَضَعْتَ الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ** بِغَيْرِ إِنَاءٍ فَهُوَ قَلْبٌ مُضَيِّعُ

.فَصْلٌ: [مَنْزِلَةُ الْوَقْتِ]:

وَمِنْهَا الْوَقْتُ، قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
بَابُ الْوَقْتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} الْوَقْتُ اسْمٌ لِظَرْفِ الْكَوْنِ. وَهُوَ اسْمٌ فِي هَذَا الْبَابِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ، عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: حِينَ وَجْدٍ صَادِقٍ، لِإِينَاسِ ضِيَاءِ فَضْلٍ جَذَبَهُ صَفَاءُ رَجَاءٍ، أَوْ لِعِصْمَةٍ جَذَبَهَا صِدْقُ خَوْفٍ. أَوْ لِتَلَهُّبِ شَوْقٍ جَذَبَهُ اشْتِعَالُ مَحَبَّةٍ.
وَجْهُ اسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ مَجِيءَ مُوسَى أَحْوَجَ مَا كَانَ الْوَقْتُ إِلَيْهِ. فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: جَاءَ فُلَانٌ عَلَى قَدَرٍ. إِذَا جَاءَ وَقْتُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. قَالَ جَرِيرٌ:
نَالَ الْخِلَافَةَ إِذْ كَانَتْ عَلَى قَدَرٍ ** كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى مَوْعِدٍ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ مُوسَى مَوْعِدٌ لِلْمَجِيءِ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ أَتَى عَلَى ذَلِكَ الْمَوْعِدِ.
وَلَكِنْ وَجْهُ هَذَا: أَنَّ الْمَعْنَى: جِئْتَ عَلَى الْمَوْعِدِ الَّذِي وَعَدْنَا أَنْ نُنْجِزَهُ، وَالْقَدَرِ الَّذِي قَدَّرْنَا أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَدَ بِإِرْسَالِ نَبِيٍّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَمْلَأُ الْأَرْضَ نُورًا وَهُدًى. فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ: عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْجَزَ ذَلِكَ الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَ بِهِ.
وَاسْتِشْهَادُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّهِ مِنَ الْعِلْمِ. لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا وَقَعَ فِي وَقْتِهِ الَّذِي هُوَ أَلْيَقُ الْأَوْقَاتِ بِوُقُوعِهِ فِيهِ: كَانَ أَحْسَنَ وَأَنْفَعَ وَأَجْدَى. كَمَا إِذَا وَقَعَ الْغَيْثُ فِي أَحْوَجِ الْأَوْقَاتِ إِلَيْهِ. وَكَمَا إِذَا وَقَعَ الْفَرَجُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَقْدَارَ الرَّبِّ تَعَالَى، وَجَرَيَانَهَا فِي الْخَلْقِ: عَلِمَ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي أَلْيَقِ الْأَوْقَاتِ بِهَا.
فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى: أَحْوَجَ مَا كَانَ النَّاسُ إِلَى بِعْثَتِهِ. وَبَعَثَ عِيسَى كَذَلِكَ. وَبَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ: أَحْوَجَ مَا كَانَ أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَى إِرْسَالِهِ. فَهَكَذَا وَقْتُ الْعَبْدِ مَعَ اللَّهِ يُعَمِّرُهُ بِأَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ لَهُ: أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَى عِمَارَتِهِ.
قَوْلُهُ الْوَقْتُ: ظَرْفُ الْكَوْنِ الْوَقْتُ: عِبَارَةٌ عَنْ مُقَارَبَةِ حَادِثٍ لِحَادِثٍ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَهُوَ نِسْبَةٌ بَيْنَ حَادِثَيْنِ. فَقَوْلُهُ ظَرْفُ الْكَوْنِ أَيْ وِعَاءُ التَّكْوِينِ. فَهُوَ الْوِعَاءُ الزَّمَانِيُّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّكْوِينُ. كَمَا أَنَّ ظَرْفَ الْمَكَانِ: هُوَ الْوِعَاءُ الْمَكَانِيُّ، الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْجِسْمُ.
وَلَكِنَّ الْوَقْتَ فِي اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: الْوَقْتُ مَا أَنْتَ فِيهِ. فَإِنْ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا فَوَقْتُكَ الدُّنْيَا وَإِنْ كُنْتَ بِالْعُقْبَى فَوَقْتُكَ الْعُقْبَى. وَإِنْ كُنْتَ بِالسُّرُورِ فَوَقْتُكَ السُّرُورُ. وَإِنْ كُنْتَ بِالْحُزْنِ فَوَقْتُكَ الْحُزْنُ.
يُرِيدُ: أَنَّ الْوَقْتَ مَا كَانَ الْغَالِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَالِهِ.
وَقَدْ يُرِيدُ: أَنَّ الْوَقْتَ مَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ. وَهُوَ اصْطِلَاحُ أَكْثَرِ الطَّائِفَةِ. وَلِهَذَا يَقُولُونَ: الصُّوفِيُّ وَالْفَقِيرُ ابْنُ وَقْتِهِ.
يُرِيدُونَ: أَنَّ هِمَّتَهُ لَا تَتَعَدَّى وَظِيفَةَ عِمَارَتِهِ بِمَا هُوَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِهِ، وَأَنْفَعُهَا لَهُ. فَهُوَ قَائِمٌ بِمَا هُوَ مُطَالَبٌ بِهِ فِي الْحِينِ وَالسَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ. فَهُوَ لَا يَهْتَمُّ بِمَاضِي وَقْتِهِ وَآتِيهِ، بَلْ يَهْتَمُّ بِوَقْتِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْوَقْتِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ يُضَيِّعُ الْوَقْتَ الْحَاضِرَ، وَكُلَّمَا حَضَرَ وَقْتٌ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِالطَّرَفَيْنِ. فَتَصِيرُ أَوْقَاتُهُ كُلُّهَا فَوَاتًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: صَحِبْتُ الصُّوفِيَّةَ. فَمَا انْتَفَعْتُ مِنْهُمْ إِلَّا بِكَلِمَتَيْنِ، سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: الْوَقْتُ سَيْفٌ. فَإِنْ قَطَعْتَهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ. وَنَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ، وَإِلَّا شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ.
قُلْتُ: يَا لَهُمَا مِنْ كَلِمَتَيْنِ، مَا أَنْفَعَهُمَا وَأَجْمَعَهُمَا، وَأَدَلَّهُمَا عَلَى عُلُوِّ هِمَّةِ قَائِلِهِمَا، وَيَقَظَتِهِ. وَيَكْفِي فِي هَذَا ثَنَاءُ الشَّافِعِيِّ عَلَى طَائِفَةِ هَذَا قَدْرَ كَلِمَاتِهِمْ.
وَقَدْ يُرِيدُونَ بِالْوَقْتِ: مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. وَهُوَ مَا يُصَادِفُهُمْ فِي تَصْرِيفِ الْحَقِّ لَهُمْ. دُونَ مَا يَخْتَارُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ. وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ بِحُكْمِ الْوَقْتِ. أَيْ مُسْتَسْلِمٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ.
وَهَذَا يَحْسُنُ فِي حَالٍ، وَيَحْرُمُ فِي حَالٍ. وَيُنْقِصُ صَاحِبَهُ فِي حَالٍ. فَيَحْسُنُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَيْسَ لِلَّهِ عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ. بَلْ فِي مَوْضِعِ جَرَيَانِ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ، وَالْغُرْبَةِ وَالْجُوعِ، وَالْأَلَمِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَحْرُمُ فِي الْحَالِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ. فَإِنَّ التَّضْيِيعَ لِذَلِكَ وَالِاسْتِسْلَامَ، وَالِاسْتِرْسَالَ مَعَ الْقَدَرِ: انْسِلَاخٌ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَيُنْقِصُ صَاحِبَهُ فِي حَالٍ تَقْتَضِي قِيَامًا بِالنَّوَافِلِ، وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ.
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْعَبْدِ خَيْرًا: أَعَانَهُ بِالْوَقْتِ. وَجَعَلَ وَقْتَهَ مُسَاعِدًا لَهُ. وَإِذَا أَرَادَ بِهِ شَرًّا: جَعَلَ وَقْتَهُ عَلَيْهِ، وَنَاكَدَهُ وَقْتَهُ. فَكُلَّمَا أَرَادَ التَّأَهُّبَ لِلْمَسِيرِ: لَمْ يُسَاعِدْهُ الْوَقْتُ. وَالْأَوَّلُ: كُلَّمَا هَمَّتْ نَفْسُهُ بِالْقُعُودِ أَقَامَهُ الْوَقْتُ وَسَاعَدَهُ.
وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُهُمُ الصُّوفِيَّةَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَصْحَابُ السَّوَابِقِ، وَأَصْحَابُ الْعَوَاقِبِ، وَأَصْحَابُ الْوَقْتِ، وَأَصْحَابُ الْحَقِّ. قَالَ:
فَأَمَّا أَصْحَابُ السَّوَابِقِ: فَقُلُوبُهُمْ أَبَدًا فِيمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ. لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَزَلِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِاكْتِسَابِ الْعَبْدِ.
وَيَقُولُونَ: مَنْ أَقْصَتْهُ السَّوَابِقُ لَمْ تُدْنِهِ الْوَسَائِلُ. فَفِكْرُهُمْ فِي هَذَا أَبَدًا. وَمَعَ ذَلِكَ: فَهُمْ يَجِدُّونَ فِي الْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرَبِ، غَيْرَ وَاثِقِينَ بِهَا، وَلَا مُلْتَفِتِينَ إِلَيْهَا، وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ:
مِنْ أَيْنَ أُرْضِيكَ إِلَّا أَنْ تُوَفِّقَنِي ** هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَا التَّوْفِيقُ مِنْ قِبَلِي

إِنْ لَمْ يَكُنْ لِي فِي الْمَقْدُورِ سَابِقَةٌ ** فَلَيْسَ يَنْفَعُ مَا قَدَّمْتُ مِنْ عَمَلِي

وَأَمَّا أَصْحَابُ الْعَوَاقِبِ: فَهُمْ مُتَفَكِّرُونَ فِيمَا يُخْتَمُ بِهِ أَمْرُهُمْ. فَإِنَّ الْأُمُورَ بِأَوَاخِرِهَا. وَالْأَعْمَالَ بِخَوَاتِيمِهَا، وَالْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ. كَمَا قِيلَ:
لَا يَغُرَّنَّكَ صَفَا الْأَوْقَاتِ ** فَإِنَّ تَحْتَهَا غَوَامِضَ الْآفَاتِ

فَكَمْ مِنْ رَبِيعٍ نَوَّرَتْ أَشْجَارُهُ، وَتَفَتَّحَتْ أَزْهَارُهُ، وَزَهَتْ ثِمَارُهُ، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ سَمَاوِيَّةٌ. فَصَارَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا}- إِلَى قوله: {يَتَفَكَّرُونَ}.
فَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ كَبَا بِهِ جَوَادُ عَزْمِهِ ** فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ

وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ- وَقَدْ شُوهِدَ مِنْهُ خِلَافُ مَا كَانَ يُعْهَدُ عَلَيْهِ-: مَا الَّذِي أَصَابَكَ؟ فَقَالَ: حِجَابٌ وَقَعَ، وَأَنْشَدَ:
أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ ** وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ

وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا ** وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ

لَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ؟ إِنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا؟
تَعْجَبِينَ مِنْ سَقَمِي ** صِحَّتِي هِيَ الْعَجَبُ

النَّاكِصُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَنِ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ:
خُذْ مِنَ الْأَلْفِ وَاحِدًا ** وَاطَّرِحِ الْكُلَّ مِنْ بَعْدِهِ

وَأَمَّا أَصْحَابُ الْوَقْتِ: فَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِالسَّوَابِقِ، وَلَا بِالْعَوَاقِبِ. بَلِ اشْتَغَلُوا بِمُرَاعَاةِ الْوَقْتِ، وَمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ. وَقَالُوا: الْعَارِفُ ابْنُ وَقْتِهِ. لَا مَاضِيَ لَهُ وَلَا مُسْتَقْبَلَ.
وَرَأَى بَعْضُهُمُ الصِّدِّيقَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي مَنَامِهِ. فَقَالَ لَهُ: أَوْصِنِي. فَقَالَ لَهُ: كُنِ ابْنَ وَقْتِكَ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ الْحَقِّ: فَهُمْ مَعَ صَاحِبِ الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ، وَمَالِكِهِمَا وَمُدَبِّرِهِمَا. مَأْخُوذُونَ بِشُهُودِهِ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْأَوْقَاتِ. لَا يَتَفَرَّغُونَ لِمُرَاعَاةِ وَقْتٍ وَلَا زَمَانٍ. كَمَا قِيلَ:
لَسْتُ أَدْرِي أَطَالَ لَيْلِي أَمْ لَا ** كَيْفَ يَدْرِي بِذَاكَ مَنْ يَتَقَلَّى

لَوْ تَفَرَّغْتُ لِاسْتِطَالَةِ لَيْلِي ** وَلِرَعْيِ النُّجُومِ كُنْتُ مُخَلَّى

إِنَّ لِلْعَاشِقِينَ عَنْ قِصَرِ اللَّيْـ ** ـلِ، وَعَنْ طُولِهِ مِنَ الْعِشْقِ شُغْلَا

قَالَ الْجُنَيْدُ: دَخَلْتُ عَلَى السَّرِيِّ يَوْمًا. فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا فِي النَّهَارِ وَلَا فِي اللَّيْلِ لِي فَرَجٌ ** فَلَا أُبَالِي أَطَالَ اللَّيْلُ أَمْ قَصُرَا

ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ عِنْدَ رَبِّكُمْ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ.
يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَطَلِّعٍ إِلَى الْأَوْقَاتِ. بَلْ هُوَ مَعَ الَّذِي قَدَّرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارِ.

.فَصْلٌ: [مَعَانِي الْوَقْتِ]:

.[الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: وَقْتُ وَجْدٍ صَادِقٍ]:

الْوَقْتُ: اسْمٌ فِي هَذَا الْبَابِ لِثَلَاثِ مَعَانٍ. الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: حِينَ وَجْدٍ صَادِقٍ. أَيْ وَقْتُ وَجْدٍ صَادِقٍ، أَيْ زَمَنُ مَنْ وَجَدَ يَقُومُ بِقَلْبِهِ، وَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ، غَيْرُ مُتَكَلِّفٍ لَهُ، وَلَا مُتَعَمِّلٍ فِي تَحْصِيلِهِ.
يَكُونُ مُتَعَلَّقَهُ إِينَاسُ ضِيَاءِ فَضْلٍ أَيْ رُؤْيَةُ ذَلِكَ، وَالْإِينَاسُ الرُّؤْيَةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} وَلَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ. بَلْ رُؤْيَةُ مَا يَأْنَسُ بِهِ الْقَلْبُ، وَيَسْكُنُ إِلَيْهِ. وَلَا يُقَالُ لِمَنْ رَأَى عَدُوَّهُ أَوْ مُخَوِّفًا آنَسَهُ.
وَمَقْصُودُهُ: أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ وَقْتُ وَجْدٍ، صَاحِبُهُ صَادِقٌ فِيهِ لِرُؤْيَتِهِ ضِيَاءَ فَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ. وَالْفَضْلُ هُوَ الْعَطَاءُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُعْطَى، أَوْ يُعْطَى فَوْقَ اسْتِحْقَاقِهِ. فَإِذَا آنَسَ هَذَا الْفَضْلَ، وَطَالَعَهُ بِقَلْبِهِ: أَثَارَ ذَلِكَ فِيهِ وَجْدًا آخَرَ، بَاعِثًا عَلَى مَحَبَّةِ صَاحِبِ الْفَضْلِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا.
وَدَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ وَجْدٌ أَبْكَاهُ. فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ؟ فَقَالَ: ذَكَرْتُ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ مِنَ السُّنَّةِ وَمَعْرِفَتِهَا، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ شُبَهِ الْقَوْمِ وَقَوَاعِدِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَمُوَافَقَةِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ، وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَسَرَّنِي ذَلِكَ حَتَّى أَبْكَانِي.
فَهَذَا الْوَجْدُ أَثَارَهُ إِينَاسُ فَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ.
قَوْلُهُ جَذَبَهُ صَفَاءُ رَجَاءٍ أَيْ جَذَبَ ذَلِكَ الْوَجْدَ- أَوِ الْإِينَاسَ، أَوِ الْفَضْلَ- رَجَاءٌ صَافٍ غَيْرُ مُكَدَّرٍ. وَالرَّجَاءُ الصَّافِي هُوَ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ كَدَرُ تَوَهُّمِ مُعَاوَضَةٍ مِنْكَ، وَأَنَّ عَمَلَكَ هُوَ الَّذِي بَعَثَكَ عَلَى الرَّجَاءِ. فَصَفَاءُ الرَّجَاءِ يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ. بَلْ يَكُونُ رَجَاءً مَحْضًا لِمَنْ هُوَ مُبْتَدِئُكَ بِالنِّعَمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقِكَ. وَالْفَضْلُ كُلُّهُ لَهُ وَمِنْهُ، وَفِي يَدِهِ- أَسْبَابُهُ وَغَايَاتُهُ، وَوَسَائِلُهُ، وَشُرُوطُهُ، وَصَرْفُ مَوَانِعِهِ- كُلِّهَا بِيَدِ اللَّهِ. لَا يَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا بِدُونِ تَوْفِيقِهِ، وَإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ: أَنَّ الْوَقْتَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى: عِبَارَةٌ عَنْ وَجْدٍ صَادِقٍ، سَبَبُهُ رُؤْيَةُ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ. لِأَنَّ رَجَاءَهُ كَانَ صَافِيًا مِنَ الْأَكْدَارِ.
قَوْلُهُ أَوْ لِعِصْمَةٍ جَذَبَهَا صِدْقُ خَوْفٍ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ أَوْ لِعِصْمَةٍ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ أَوْ لِإِينَاسِ ضِيَاءِ فَضْلٍ أَيْ وَجْدٍ لِعِصْمَةٍ جَذَبَهَا صِدْقُ خَوْفٍ. فَاللَّامُ لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ. بَلْ هِيَ عَلَى حَدِّهَا فِي قَوْلِكَ: ذَوْقٌ لِكَذَا، وَرُؤْيَةٌ لِكَذَا. فَمُتَعَلَّقُ الْوَجْدِ عِصْمَةٌ وَهِيَ مَنَعَةٌ وَحِفْظٌ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ. جَذَبَهَا صِدْقُ خَوْفٍ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْدِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ الْوَجْدَ فِي الْأُولَى: جَذَبَهُ صِدْقُ الرَّجَاءِ. وَفِي الثَّانِيَةِ: جَذَبَهُ صِدْقُ الْخَوْفِ. وَفِي الثَّالِثَةِ- الَّتِي سَتُذْكَرُ- جَذَبَهُ صِدْقُ الْحُبِّ. فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَوْ لِتَلَهُّبِ شَوْقٍ جَذَبَهُ اشْتِعَالُ مَحَبَّةٍ.
وَخَدَمَتْهُ التَّوْرِيَةُ فِي اللَّهِيبِ وَالِاشْتِعَالِ. وَالْمَحَبَّةُ مَتَى قَوِيَتِ اشْتَعَلَتْ نَارُهَا فِي الْقَلْبِ. فَحَدَثَ عَنْهَا لَهِيبُ الِاشْتِيَاقِ إِلَى لِقَاءِ الْحَبِيبِ.
وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ، الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الدَّرَجَةُ- وَهِيَ: الْحُبُّ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ- هِيَ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى عِمَارَةِ الْوَقْتِ بِمَا هُوَ الْأَوْلَى لِصَاحِبِهِ وَالْأَنْفَعُ لَهُ، وَهِيَ أَسَاسُ السُّلُوكِ، وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الثَّلَاثَةَ فِي قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ قُطْبُ رَحَى الْعُبُودِيَّةِ. وَعَلَيْهَا دَارَتْ رَحَى الْأَعْمَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [الْمَعْنَى الثَّانِي اسْمٌ لِطَرِيقِ سَالِكٍ]:

قَالَ: وَالْمَعْنَى الثَّانِي: اسْمٌ لِطَرِيقِ سَالِكٍ. يَسِيرُ بَيْنَ تَمَكُّنٍ وَتَلَوُّنٍ، لَكِنَّهُ إِلَى التَّمَكُّنِ مَا هُوَ. يَسْلُكُ الْحَالَ، وَيَلْتَفِتُ إِلَى الْعِلْمِ. فَالْعِلْمُ يَشْغَلُهُ فِي حِينٍ، وَالْحَالُ يَحْمِلُهُ فِي حِينٍ. فَبَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا: يُذِيقُهُ شُهُودًا طَوْرًا. وَيَكْسُوهُ عِبْرَةً طَوْرًا، وَيُرِيهِ غَيْرَةَ تَفَرُّقٍ طَوْرًا.
هَذَا الْمَعْنَى: هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي مِنَ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ مِنْ مَعَانِي الْوَقْتِ عِنْدَهُ.
قَوْلُهُ اسْمٌ لِطَرِيقِ سَالِكٍ هُوَ عَلَى الْإِضَافَةِ. أَيْ لِطَرِيقِ عَبْدٍ سَالِكٍ.
قَوْلُهُ يَسِيرُ بَيْنَ تَمَكُّنٍ وَتَلَوُّنٍ أَيْ ذَلِكَ الْعَبْدُ يَسِيرُ بَيْنَ تَمَكُّنٍ وَتَلَوُّنٍ. وَالتَّمَكُّنُ هُوَ الِانْقِيَادُ إِلَى أَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ بِالشُّهُودِ وَالْحَالِ، وَالتَّلَوُّنُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَاصَّةً: هُوَ الِانْقِيَادُ إِلَى أَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ بِالْعِلْمِ. فَالْحَالُ يَجْمَعُهُ بِقُوَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ. فَيُعْطِيهِ تَمْكِينًا. وَالْعِلْمُ بِلَوْنِهِ بِحَسَبِ مُتَعَلَّقَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ.
قَوْلُهُ: لَكِنَّهُ إِلَى التَّمَكُّنِ مَا هُوَ؟ يَسْلُكُ الْحَالَ. وَيَلْتَفِتُ إِلَى الْعِلْمِ.
يَعْنِي: أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ هُوَ سَالِكٌ إِلَى التَّمَكُّنِ مَا دَامَ يَسْلُكُ الْحَالَ وَيَلْتَفِتُ إِلَى الْعِلْمِ. فَأَمَّا إِنْ سَلَكَ الْعِلْمَ، وَالْتَفَتَ إِلَى الْحَالِ: لَمْ يَكُنْ سَالِكًا إِلَى التَّمَكُّنِ.
فَالسَّالِكُونَ ضَرْبَانِ: سَالِكُونَ عَلَى الْحَالِ، مُلْتَفِتُونَ إِلَى الْعِلْمِ. وَهُمْ إِلَى التَّمَكُّنِ أَقْرَبُ، وَسَالِكُونَ عَلَى الْعِلْمِ. مُلْتَفِتُونَ إِلَى الْحَالِ. وَهُمْ إِلَى التَّلَوُّنِ أَقْرَبُ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ.
وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ: هِيَ الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْحَالِ، حَتَّى كَأَنَّهُمَا غَيْرَانِ وَحِزْبَانِ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمَا لَا تَأْنَسُ بِالْأُخْرَى، وَلَا تُعَاشِرُهَا إِلَّا عَلَى إِغْمَاضٍ وَنَوْعِ اسْتِكْرَاهٍ.
وَهَذَا مِنْ تَقْصِيرِ الْفَرِيقَيْنِ، حَيْثُ ضَعُفَ أَحَدُهُمَا عَنِ السَّيْرِ فِي الْعِلْمِ. وَضَعُفَ الْآخَرُ عَنِ الْحَالِ فِي الْعِلْمِ. فَلَمْ يَتَمَكَّنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَالِ وَالْعِلْمِ. فَأَخَذَ هَؤُلَاءِ الْعِلْمَ، وَسَعَتَهُ وَنُورَهُ. وَرَجَّحُوهُ. وَأَخَذَ هَؤُلَاءِ الْحَالَ وَسُلْطَانَهُ وَتَمْكِينَهُ وَرَجَّحُوهُ. وَصَارَ الصَّادِقُ الضَّعِيفُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ: يَسِيرُ بِأَحَدِهِمَا مُلْتَفِتًا إِلَى الْآخَرِ.
فَهَذَا مُطِيعٌ لِلْحَالِ. وَهَذَا مُطِيعٌ لِلْعِلْمِ. لَكِنَّ الْمُطِيعَ لِلْحَالِ مَتَى عَصَى بِهِالْعَلَمَ: كَانَ مُنْقَطِعًا مَحْجُوبًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنَ الْحَالِ مَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ. وَالْمُطِيعُ لِلْعِلْمِ مَتَى أَعْرَضَ بِهِ عَنِ الْحَالِ كَانَ مُضَيِّعًا مَنْقُوصًا، مُشْتَغِلًا بِالْوَسِيلَةِ عَنِ الْغَايَةِ.
وَصَاحِبُ التَّمْكِينِ: يَتَصَرَّفُعِلْمُهُ فِي حَالِهِ. وَيَحْكُمُ عَلَيْهِ فَيَنْقَادُ لِحُكْمِهِ، وَيَتَصَرَّفُ حَالُهُ فِي عِلْمِهِ. فَلَا يَدَعُهُ أَنْ يَقِفَ مَعَهُ. بَلْ يَدْعُوهُ إِلَى غَايَةِ الْعِلْمِ. فَيُجِيبُهُ وَيُلَبِّي دَعْوَتَهُ. فَهَذِهِ حَالُ الْكُمَّلِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَمَنِ اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَجَدَهَا كَذَلِكَ.
فَلَمَّا فَرَّقَ الْمُتَأَخِّرُونَ بَيْنَ الْحَالِ وَالْعِلْمِ: دَخَلَ عَلَيْهِمُ النَّقْصُ وَالْخَلَلُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} فَكَذَلِكَ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ عِلْمًا. وَلِمَنْ يَشَاءُ حَالًا. وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِمَنْ يَشَاءُ. وَيُخْلِي مِنْهُمَا مَنْ يَشَاءُ.
قَوْلُهُ فَالْعِلْمُ يَشْغَلُهُ فِي حِينٍ أَيْ يَشْغَلُهُ عَنِ السُّلُوكِ إِلَى تَمَكُّنِ الْحَالِ. لِأَنَّ الْعَلَمَ مُتَنَوِّعُ التَّعَلُّقَاتِ فَهُوَ يُفَرِّقُ. وَالْحَالُ يَجْمَعُ. لِأَنَّهُ يَدْعُوهُ إِلَى الْفَنَاءِ. وَهُنَاكَ سُلْطَانُ الْحَالِ.
قَوْلُهُ وَالْحَالُ يَحْمِلُهُ فِي حِينٍ أَيْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْحَالُ تَارَةً. فَيَصِيرُ مَحْمُولًا بِقُوَّةِ الْحَالِ وَسُلْطَانِهِ عَلَى السُّلُوكِ. فَيَشْتَدُّ بِحُكْمِ الْحَالِ، يَعْنِي: وَإِذَا غَلَبَهُ الْعِلْمُ شَغَلَهُ عَنِ السُّلُوكِ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ طَرِيقَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ الْعِلْمَ عِنْدَهُمْ يَشْغَلُ عَنِ السُّلُوكِ. وَلِهَذَا يَعُدُّونَ السَّالِكَ مَنْ سَلَكَ عَلَى الْحَالِ مُلْتَفِتًا عَنِ الْعِلْمِ.
وَأَمَّا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ- مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ يُعِينُ عَلَى السُّلُوكِ، وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ صَاحِبُهُ سَالِكًا بِهِ وَفِيهِ- فَلَا يَشْغَلُهُ الْعِلْمُ عَنْ سُلُوكِهِ. وَإِنْ أَضْعَفَ سَيْرَهُ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ. فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُجَامِعُ الْفَنَاءَ. فَالْفَنَاءُ لَيْسَ هُوَ غَايَةَ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ. بَلْ وَلَا هُوَ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ عَارِضًا مِنْ عَوَارِضِهَا. يَعْرِضُ لِغَيْرِ الْكُمَّلِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ.
فَبَيَّنَّا أَنَّ الْفَنَاءَ الْكَامِلَ، الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ: هُوَ الْفَنَاءُ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَى اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ. فَيَفْنَى بِمَحَبَّةِ اللَّهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ. وَبِإِرَادَتِهِ وَرَجَائِهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ: عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَاهُ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا الْفَنَاءُ لَا يُنَافِي الْعِلْمَ بِحَالٍ. وَلَا يَحُولُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَهُ. بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ مِنْ أَعْظَمِ أَعْوَانِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ غَفَلَ عَنْهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ، بِحَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوهُ وَلَمْ يَسْلُكُوهُ. وَلَكِنْ لَمْ يُخْلِ اللَّهُ الْأَرْضَ مِنْ قَائِمٍ بِهِ، دَاعٍ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ فَبَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا أَيْ عَذَابُهُ وَأَلَمُهُ: بَيْنَ دَاعِي الْحَالِ وَدَاعِي الْعِلْمِ. فَإِيمَانُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى إِجَابَةِ دَاعِي الْعِلْمِ، وَوَارِدُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى إِجَابَةِ دَاعِي الْحَالِ. فَيَصِيرُ كَالْغَرِيمِ بَيْنَ مُطَالِبَيْنِ. كُلٌّ مِنْهُمَا يُطَالِبُهُ بِحَقِّهِ. وَلَيْسَ بِيَدِهِ إِلَّا مَا يَقْضِي أَحَدَهُمَا.
وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا مِنَ الضِّيقِ. وَإِلَّا فَمَعَ السَّعَةِ: يُوَفِّي كُلًّا مِنْهُمَا حَقَّهُ.
قَوْلُهُ يُذِيقُهُ شُهُودًا طَوْرًا أَيْ ذَلِكَ الْبَلَاءُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الدَّاعِيَيْنِ يُذِيقُهُ شُهُودًا طَوْرًا، وَهُوَ الطَّوْرُ الَّذِي يَكُونُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِيهِ: هُوَ الْعِلْمَ.
قَوْلُهُ وَيَكْسُوهُ عِبْرَةً طَوْرًا الظَّاهِرُ: أَنَّهُ عِبْرَةٌ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْعَيْنِ، أَيِ اعْتِبَارًا بِأَفْعَالِهِ، وَاسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ بِهَا. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَلَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَفْعَالِهِ. فَالْعِلْمُ يَكْسُو صَاحِبَهُ اعْتِبَارًا وَاسْتِدْلَالًا عَلَى الرَّبِّ بِأَفْعَالِهِ.
وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَةً، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْعِلْمَ يَكْسُوهُ غَيْرَةً مِنْ حِجَابِهِ عَنْ مَقَامِ صَاحِبِ الْحَالِ. فَيَغَارُ مِنِ احْتِجَاجِهِ عَنِ الْحَالِ بِالْعِلْمِ، وَعَنِ الْعِيَانِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَعَنِ الشُّهُودِ- الَّذِي هُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ- بِالْإِيمَانِ، الَّذِي هُوَ إِيمَانٌ بِالْغَيْبِ.
قَوْلُهُ وَيُرِيهِ غَيْرَةَ تَفَرُّقٍ طَوْرًا هَذَا بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ لَيْسَ إِلَّا، أَيْ وَيُرِيهِ الْعِلْمُ غَيْرَةَ تَفْرِقَةٍ فِي أَوْدِيَتِهِ. فَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَحْكَامِ الْحَالِ وَأَحْكَامِ الْعِلْمِ. وَهُوَ حَالُ صَحْوٍ وَتَمْيِيزٍ.
وَكَأَنَّ الشَّيْخَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَقَامِ تَغَارُ تَفْرِقَتُهُ مِنْ جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ. فَنَفْسُهُ تَفِرُّ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى اللَّهِ إِلَى تَفَرُّقِ الْعِلْمِ. فَإِنَّهُ لَاأَشَقَّ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ جَمْعِيَّتِهَا عَلَى اللَّهِ. فَهِيَ تَهْرُبُ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْحَالِ تَارَةً، وَإِلَى الْعَمَلِ تَارَةً، وَإِلَى الْعِلْمِ تَارَةً، هَذِهِ نُفُوسُ السَّالِكِينَ الصَّادِقِينَ.
وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ: فَنُفُوسُهُمْ تَفِرُّ مِنَ اللَّهِ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَالرَّاحَاتِ. فَأَشَقُّ مَا عَلَى النُّفُوسِ: جَمْعِيَّتُهَا عَلَى اللَّهِ. وَهِيَ تُنَاشِدُ صَاحِبَهَا: أَنْ لَا يُوَصِّلَهَا إِلَيْهِ، وَأَنْ يَشْغَلَهَا بِمَا دُونَهُ. فَإِنَّ حَبْسَ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ شَدِيدٌ. وَأَشَدُّ مِنْهُ: حَبْسُهَا عَلَى أَوَامِرِهِ. وَحَبْسُهَا عَنْ نَوَاهِيهِ. فَهِيَ دَائِمًا تُرْضِيكَ بِالْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، وَبِالْعَمَلِ عَنِ الْحَالِ، وَبِالْحَالِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ شَدَّ مِئْزَرَ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ. وَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ قَاطِعٌ عَنْهُ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ- كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ-: دَرَجَةُ الْحَالِ. وَدَرَجَةُ الْعِلْمِ، وَدَرَجَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَالِ وَالْعِلْمِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الدَّرَجَاتِ: هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعَانِي الْوَقْتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.